سنة اولى ونصف دستور

Publié le par hassan tariq

 
 
سنة  و نصف دستور:
تأملات سريعة
 
 
د.حسن طارق
 
 
 
 
 
-1-
 
 
 
​​
​في خطب السياسيين وافتتاحيات الصحافة ومداخلات البرلمان وندوات الجامعة وبلاغات المجتمع المدني، ثمة مصطلح يبدو اليوم غير قابل للالتفاف، بلا مرادف أو يكاد ،إنه " تنزيل الدستور ".
لقد لاحظ مثلا الأستاذ محمد المدني أن المفهوم يحمل دلالات دينية وإيديولوجية،كيف إذن انزاح المصطلح من حقله الأصلي كلفظ قرآني له علاقة بالوحي والدراسات الفقهية "لعلوم التنزيل" إلى حقل التداول العمومي السياسي و الدستوري؟
​هل نقول من جديد أن اللغة تظل إحدى أكبر رهانات الفعل السياسي؟ هل نعود لأقدم دروس العمران الخلدوني حيث اللغة (= الخطاب) السائدة هي لغة المنتصرين في السياسة كما في الاجتماع، في السلم كما في الحروب.
​في معجم السياسة ليس ثمة حياد في الكلمات، في السياسة كما في الآداب للغة مكرها وللكلمات سحرها، لذلك من يصنع اللغة ومن ينحت الكلمات هو من ينتج في النهاية "المعنى".
ان الصراع السياسي ،هو صراع كذالك على اللغة،صراع داخل  اللغة ،صراع باللغة و الكلمات.
ان اللغة سلاح للسياسة و ساحة نزالاتها في  ذات الأن،لتقرأ مرحلة سياسية يمكنك  الاكتفاء بالمعجم، لتعرف بالبداهة  من كان يملك " الكلمات"؟ قبل أن تعرفك كتب التاريخ  عن من كان يملك السلطة؟
​ولأن للكلمات تاريخ ومنشأ و ذاكرة، فالتنزيل كمصطلح وليد شرعي للحركة الإسلامية المغربية، أعادت استنباته كغيره من المصطلحات رغبة في بناء خطاب خاص بها يمنحها الاحساس بالاستقلالية الهوياتيه عن ما يمور به سوق التداول اللغوي/ السياسي المغربي، و يقيها "لوثة" خطاب "تغريبي"سائد.
​لقد ظل اليسار المغربي والقوى الديمقراطية موردا أساسيا لصناعة اللغة ونحت المفاهيم وبلورة الخطاب وكان ذلك دليلا إضافيا على هيمنة ثقافية بلا منازع، حيث طالما لجأ الفاعلون الآخرون إلى استعارة أجزاء من هذا الخطاب الذي تحول في كثير من اللحظات إلى جزء من المشترك العمومي.

ربما هو فيكتور هيغو من قال "عندما تقع الثورات إنتبهوا للمعاجم".
​في المغرب لم تقع الثورة، لكن لا بأس من أن نفتح المعجم لنقرأ بعض كلمات الربيع الإسلامي الجديد .
 
-2-
 
شكل مطلب تقوية مؤسسة الوزير الأول،أحد محاور دفتر الإصلاح الدستوري لدى القوى الديمقراطية،لذلك سيبدو هذا  المطلب حاضرا  في مذكرة 1991 التي وقعها كل من  الراحل عبد الرحيم بوعبيد باسم الاتحاد الاشتراكي  للقوات الشعبية ، و الأستاذ امحمد بوستة باسم حزب الاستقلال،ثم بعد ذلك في المذكرة التي سترفعها الكتلة الديمقراطية مباشرة بعد تأسيسها في العام 1992.
في نفس السنة،سيعلن الملك الراحل ،عن تعديلات دستورية، وسيقدم  للمغاربة مشروع هذه المراجعة،بعد نشره في الجريدة الرسمية ،و إذاعته على أمواج الراديو و التلفزيون،و نشره في كتيب صغير ،وزعته الإدارة على نطاق واسع.
سواء داخل الحملة الرسمية للتصويت الايجابي،أو داخل الحجج التي اعتمدها دعاة التصويت بنعم ،خاصة من داخل الصف الديمقراطي(حزب التقدم و الاشتراكية،مرافعة الأستاذ يوسفي أمام اللجنة المركزية لحزبه الذي امتنع في النهاية عن المشاركة في الاستفتاء)،سيبدو الفصل 24 من المشروع أحد عناصر التغيير القوية ،على الأقل في باب تعزيز صلاحيات الوزير الأول.
كان هذا الفصل كما طرح على الاستفتاء ،ينص من خلال فقراته الثلاث على مايلي:
"يعين الملك الوزير الأول.
يعين الملك باقي أعضاء الحكومة و يعفيهم باقتراح من الوزير الأول.
يعين الملك الحكومة بمبادرة منه أو بناء على استقالتها."
تم التصويت على المراجعة الدستورية ،يوم 4 شتنبر 1992، وبعد إعلان الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى عن نتيجة الاستفتاء،ستنشر الجريدة الرسمية ظهير تنفيذ مراجعة الدستور بتاريخ 9 أكتوبر1992.
بعد النشر،سيصبح الفصل 24 –بأربعة فقرات-على الشكل التالي:
"يعين الملك الوزير الأول.
ويعين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول.
وله أن يعفيهم من مهامهم.
ويعفي الحكومة بمبادرة منه أو بناء على استقالتها."
هكذا،و بجرة قلم ،تم المس بإرادة المغاربة المعبر عنها في الاستفتاء،و تم إلغاء صلاحية الوزير الأول في اقتراح إعفاء باقي أعضاء الحكومة.
سيكتب آنذاك ،الفقيد الأستاذ عبد الرحمان القادري،مقالا في جريدة "الاتحاد الاشتراكي "و سيذكر بجميع الشخصيات التي سبق لها أن أذاعت عبر الراديو أو التلفزة نصوص الدستور المعروضة على الاستفتاء، في 1962، 1970، 1972. معتبرا أن المغاربة تعودوا أن يجدوا في الجريدة الرسمية، النص الذي تعرفوا إليه قبل الاستفتاء. لكن ذلك قبل أن تقع حكاية الفصل 24 في مراجعة عام 1992.
مناسبة هذا الكلام،الرسالة التي وجهها الأستاذ عبد العزيز النويضي للأمين العام للحكومة، والتي نشرت في الصحافة  (جريدة أخبار اليوم، عدد 31 يوليوز 2012)، والمتعلقة بالفقرة الثالثة من الفصل 132 ،حيث تضمن المشروع المعروض على الاستفتاء إمكانية إحالة القوانين أو الاتفاقيات الدولية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، أو قبل المصادقة عليها إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور.
لكن النص الصادر في الجريدة الرسمية، بعد الاستفتاء، سيعرف بتر عبارة "الاتفاقيات الدولية" مما يجعل من موضوع الإحالة مقتصرا على القوانين.
مباشرة بعد الاستفتاء ستقدم الأمانة العامة للحكومة مجموعة من الاستدراكات كتصحيح لأخطاء تسللت إلى النص النهائي. لكن اليوم مع ما تضمنه الرسالة السابقة الذكر، ومع ما تداولته الصحافة من حديث الأستاذ محمد الطوزي، عالم السياسة وعضو اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور على أن "النص الذي عرض على استفتاء فاتح يوليوز، لم يكن هو نفسه الذي نشر في الجريدة الرسمية" (جريدة أخبار اليوم عدد 31 غشت 2012). فإنه لابد من السؤال حول :
هل فعلا صادق المغاربة على دستور وتم نشر دستور آخر؟
 
_-3-_
 
 
ينتمي الدستور المغربي لفئة من الدساتير التي قد يجوزتسميتها بالدساتير المفتوحة.إنه نص غير مكتمل ،يحتاج للممارسة لإختبار نقط قوته وهشاشاته،كما  يحتاج للتجربة لملء بياضاته. ولأنه توافقي في هندسته العامة و في تمثله للعلاقات بين السلط و للعلاقة داخل السلطة التنفيدية،فالمؤكد  أن  النص الذي أدار ظهره  قليلا للملكية التنفيدية  ووقف في منتصف  الطريق  الى الملكية البرلمانية،سيكون عرضة لتنافس التأويلين الرئاسي والبرلماني.
أكبرمن مجرد حروب في البلاغة أو تفاوت في القراءات،ولا حتى مجرد استراتيجيات فردية للفاعلين،هذه التأويلات هي في العمق خلاصة جوهرية لموازين القوى ولتدبيرها  السياسي.
الدستور الذي تمت صياغته  تحت دوي سقوط أنظمة الاستبداد العربي،وعلى إيقاع هدير شارع  مغربي وجد –فجأة- الكلمات الضرورية للإنتماء للتاريخ الذي بدا على غير العادة متسارعا،هل سيكون نفسه الدستور الذي سيطبق في سياقات مابعد الربيع العربي،وما بعد 25 نونبر 2011؟
سؤال قد نضطر أسفين لطرحه كثيرا في الأيام القادمة.
بعيدا عن التأويل و "الكتابة بالممارسة"،ثمة تحدي أخر :إنه ذلك المرتبط بالقوانين التنظيمية.
المشرع الدستوري المغربي في إطاراستراتيجية"النص المفتوح"،سيوسع من دائرة الإحالات على القوانين التنظيمية لتشمل عشرين موضوعا تدخل ضمنها عمليا الأوراش القادمة للاصلاح المؤسسي و الثقافي والسياسي،مواضيع مثل: الأمازيغية و الجهوية و الديمقراطية التشاركية...
وحتى لا تتكرر حكاية القانون التنظيمي للإضراب في الدساتير السابقة،تكلف الفصل 86 من الدستور بالتنصيص على وجوب عرض كل مشاريع القوانين التنظيمية في أجل لا يتعدى الولاية التشريعية الأولى التي تلي تنفيد الدستور.
هذا معناه  أننا أمام ولاية تشريعية غير عادية ؛بأجندة تأسيسية واضحة،لنقل انها  ولاية  شبه  تأسيسية سيتكلف خلالها البرلمان بكتابة النصف الأخر من الدستور.
الحكومة بدت في الأول متفهمة لطبيعة  هذا  الرهان الخاص.عندما  جاء الأستاذ بنكيران أمام النواب ليقدم برنامجه الحكومي تحدث عن " التنزيل التشاركي و الديمقراطي  لمقتضيات الدستور" وعن " إعتماد مخطط للإصلاح التشريعي من أجل تطوير و تحديث المنظومة  القانونية لبلادنا على ضوء الدستور الجديد و البدء بالقوانين التنظيمية ذات الأولوية".
في الحقيقة كان المرورالشهير للقانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا،بعيدا  جدا  عن  هذا "التنزيل".
لقد انتج المغاربة دستورا متقدما،بمخاض حقيقي و بعد حوار  عمومي واسع و غير مسبوق،لذلك عندما يتعلق الأمر بقضايا مؤسسية و تأسيسية-هي إمتداد لهذا الدستور- لا مناص من تدبير تشاركي سليم، قبل الإستسلام لمنطق المسطرة و لجاهزية الأغلبية.
المغاربة صوتوا في فاتح يوليوز2011 على دستور واحد.لذلك ليس هنا ك دستور للأغلبية وأخر للمعارضة.                    
 
 
-4-
 
انطلاقا من مسودة المخطط التشريعي التي نشرتها الصحافة خلال أكتوبر 2012، لابد من طرح بعض الملاحظات السريعة ،لعل اولها ذلك المرتبط بالخطاب السياسي الذي واكب هذا الاعلام،خطاب قدم المخطط "الموعود"كعمل غير مسبوق وكخطوة ذات دلالة تاريخية.
الواقع انه بغض النظر عن الالزام القانوني لمنطوق الفصل 86 من الدستور الذي يقر بعرض مشاريع  القوانين التنظيمية لمصادقة البرلمان في اجل لا يتعدى الولاية التشريعية الاولى،اذ سبق لحكومة التناوب الاول عام 1998 ،أن أعلنت في بداياتها عن مخططها التشريعي فضلا عن أن اصدار المخططات التشريعية السنوية يبقى أحد الانشطة التقليدية للأمانة العامة للحكومة بمناسبة بداية كل سنة تشريعية.
يتوزع المخطط التشريعي للحكومة-حسب  ذات المسودة-حول خمسة محاور تتعلق بالقوانين التنظيمية الواردة في الدستور،تحيين و ملائمة القوانين المتعلقة بمؤسسات الحكومة القائمة،القوانين المتعلقة بالمؤسسات الجديدة للحكامة ،الاجراءات و التدابير التشريعية الهادفة لملائمة القوانين مع الدستور ،ثم اخيرا النصوص المتعلقة بتنفيذ السياسات القطاعية تطبيقا للبرنامج الحكومي.
احدى الملاحظات اللافتة تتعلق بكون الفصل 10  من الدستور ينص على انه تحدد كيفيات ممارسة فرق المعارضة لحقوقها ، حسب الحالة بموجب قوانين تنظيمية أوقوانين،او بمقتضى النظام الداخلي لكل مجلس من مجلسي البرلمان،مما يعني ان تغييب المخطط التشريعي للقانون التنظيمي المتعلق  بحقوق المعارضة البرلمانية ، يرتبط بممارسة الحكومة  قراءة خاصة للدستور مما يطرح الكثير من الاسئلة السياسية و القانونية.
من حيث البرمجة الزمنية ، فان جدولة خمسة قوانين  تنظيمية،ترتبط بسير الحكومة و بالمالية وبلجان تقصي الحقائق و بالمحكمة الدستورية و بحق الاضراب.و اربعة قوانين منظمة لكل من مجلس المنافسة والهيئة الوطنية للنزاهة وهيئة المناصفة و المجلس الاستشاري للأسرة و الطفولة،قبل مت سنة 2012،يبدو شيئا مستحيلا من الناحية العملية.
من جهة أخرى،المسودة المنشورة،تكرس التأويل غير السليم للفصل 146 من الدستور،حيث قد يستمر المسلسل الذي أطلقته الحكومة السابقة بتجزئ القانون التنظيمي "الوحيد"-حسب منطوق الدستور-المتعلق بالجهوية ،الى قوانين عديدة.
الملاحظة الأبرز،ترتبط بإقحام الحكومة للديوان الملكي كجهة قد  تتكلف بمراجعة القوانين المتعلقة بالمجلس الوطني لحقوق الانسان ،و مجلس الجالية المغربية بالخارج،و مؤسسة الوسيط.في حين أسندت هذه المهمة فيما يتعلق بباقي المؤسسات المنصوص عليها في الباب الثاني عشر من الدستور،سواء منها المستحدثة او التي يتعين فقط تحيين قواننينها،اما الى  لجن خاصة ،او الى رئاسة الحكومة ،أو الى القطاعات الحكومية الأقرب الى مجال اختصاص هذه المؤسسات.
نعم لقد خرجت بعض هذه الهيئات من رحم الفصل19 من الدساتيرالسابقة،لكن دستور 2011 الذي جعل من البرلمان محتكرا للسلطة التشريعية،أحال على القانون في كل مايتعلق بتحديد تأليف و صلاحيات و تنظيم و قواعد سير هذه المؤسسات و الهيئات (الفصل171)،كما أن بامكان القانون ان يحدث هيئات اخرى للضبط و الحكامة الجيدة(الفصل159).
إن التنصيص الدستوري على كون هذه المؤسسات "مستقلة' ،و تفسير المجلس الدستوري لهذه الاستقلالية ،بكونها مؤسسات غير خاضعة لا للسلطة الرئاسية لوزير معين و لا لوصايته.لا يلغي أحقية الحكومة دستوريا و سياسيا في اعداد مشاريع القوانين المتعلقة بهذه المؤسسات.
لذلك فإسناد اعدادها للديوان الملكي،لا يندرج سوى في اطار تأويل رئاسي للوثيقة الدستورية ،و استمرارية مسلسل التنازل الإرادي عن الصلاحيات الحكومية.
 
 
 
5-
 
ظل البرلمان في التجربة السياسية المغربية،عموما،يحتل وضعية هامشية في مسلسل القرار السياسي  و في  دورة إنتاج السياسات العمومية،لقد كان عليه  أن يعبر  عن "أزمة السياسة" .أن يعكس هشاشة الأحزاب، ولاتنافسية  الإنتخابات،و ضعف النخب.أن يتأثر بهجانة المحيط السياسي، و قصور البناء المؤسسي،و ضغط المعطى السوسيولوجي. وهو ما جعل هذه المؤسسة تعيش لسنوات أزمة هوية،اذ جعل الطلب المجتمعي ،مضافا الى الواقع الدستوري، من البرلماني موزعا بين وظيفتي التمثيل  و الوساطة،ومغلبا في أكثرالحالات للثانية على الأولى.
الواقع أن البرلمان كان يعاني من اثار سلبية مزدوجة،من جهة لمسار السلطوية السياسية التي لا تؤمن بجدارة  السلطة التشريعية في الثمتيل السياسي للأمة، ومن جهة أخرى لمسار العقلنة البرلمانية التي ورثت من التجربة الفرنسية "الخوف المرضي" من أعراض الجمهورية الرابعة: برلمان قوي يؤدي حتما لإضعاف الأداة التنفيدية و المساس بالاستقرار الحكومي.
لذلك استمرت نقطة تقوية صلاحيات البرلمان وتعزيز التوازن بين السلطتين التشريعية و التنفيذية ،احدى الأبواب الثابتة في الدفتر المفتوح  لمطالب الإصلاح الدستوري للقوى الديمقراطية ببلادنا.
كان من الطبيعي،إذن أن ينشغل دستور 2011 بتأهيل  البرلمان،حيث اتجهت الهندسة الدستورية الجديدة نحو: إعادة الاعتبار لوظيفة الثمتيل السياسي للأمة ،كوظيفة مركزية، تقوية وضعية المؤسسة التشريعية تجاه الحكومة عن طريق إقرار مبدأ التنصيب البرلماني ،توسيع الصلاحيات التشريعية و الرقابية فضلا عن اضافة صلاحية تقييم السياسات العمومية،اعادة التوازن بين مجلسي البرلمان عبر اعتماد قاعدة أولوية الغرفة الأولى و اعادة تعريف طبيعة الغرفة الثانية من حيث التركيبة و الصلاحيات،ثم أخيرا تعزيز حكامة و تخليق البرلمان (حالات التنافي – تحجيم الحصانة- منع الترحال..).
اليوم،اذا كان من المؤكد أن لحظة تقييم التجربة البرلمانية الجديدة لم تحن بعد ،خاصة أن هذه التجربة التي هي في بداياتها الأولي لم تصبح بعد "جديدة" بالكامل ،اذ لازال المجلس الثاني ينتمي الى لحظة ما قبل دستور 2011،فانه من الممكن استحضار بعض الملاحظات الأولية ،خاصة على ضوء اختتام مجلس النواب لدورة أبريل ، و هي أول دورة عادية كاملة في هذه الولاية التشريعية الجديدة.
لقد استطاع مجلس النواب ،على الأقل ، في لحظتي مناقشة القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المؤسسات العمومية،و قانون الضمانات الممنوحة للعسكريين، أن يتحول الى بؤرة مركزية للفضاءالعمومي و الى أفق حقيقي لانتظارات الرأي العام و المجتمع المدني و المؤسسات الوطنية.
كما تحولت محطتي النقاش حول البرنامج الحكومي و القانون المالي الى حدثين سياسيين بامتياز،و أصبح كذلك مجلس النواب ،منذ جلسته الأولى ،ساحة حقيقية لمعارك "تطبيق الدستور".
بدايات هذه التجربة البرلمانية ،شكل احدى عناوينها الكبرى:التمرن على الاليات الرقابية الجديدة،اذ رغم الارتباك الطبيعي  الناتج عن بياضات التأطيرالقانوني الانتقالي و غير المكتمل،استطاع المجلس تدبير الجلسة الشهرية للأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة،وتم استدعاء بعض مسئولي المؤسسات و المقاولات العمومية، وشكلت بعض لجان المهام الاستطلاعية.
داخليا، تم فتح ملف القانون الداخلي قصد ملائمة- ثانية-  عميقة مع نص و روح الدستور،و طرحت للنقاش قضية الحضور،وبرزت مسألة" وضعية المعارضة"- كإحدى تحديات الملائمة الدستورية- كقضية مركزية في النقاش بين تقليد "التمثيلية النسبية"كأحد ثوابت التجربة البرلمانية و بين " الوضع الخاص "للمعارضة كأحد مستجدات الدستور الجديد.
لا يزال الكثير  امام البرلمان ، الكثير من الجهد الفعال، و الجدية المسؤولة، و التواصل الذكي والبيداغوجي،حتى يتغير ،و الأهم و الأصعب في ذات الآن ،أن تتغير صورته في المخيال الجماعي للمغاربة.
 
 
 
-6-
 
 
شكل القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا،إحدى بؤر الحوار العمومي الذي واكب التجربة الحكومية الجديدة؛إنه أول قانون تنظيمي يتقدم في عهدها، ورابع قانون تنظيمي يناقش في ظل الدستور الجديد.
​في البداية تساءل المتتبعون عن "مكان " صياغة هذا المشروع،خاصة مع السرعة غير المفهومة في مسطرة تقديمه، إذ صادق عليه المجلس الحكومي والمجلس الوزاري في نفس اليوم !، عشرة أيام فقط بعد تنصيب الحكومة وشهرا تقريبا بعد تعيينها !؟، وبرمج خلال دورة استثنائية ذات جدول أعمال جد مكثف مرتبط بمشروع القانون المالي، وطلب من المجلس الدستوري البث على وجه الاستعجال في مدى دستوريته ،وهو ما جعله يصدر قراره في أقل من ثلاثة أيام !؟، لينعقد على وجه السرعة مجلس وزاري بمدينة وجدة ،للمصادقة على الصيغة المعدلة، ليعود  مجددا إلى البرلمان، ثم يصدر المجلس الدستوري قراره في يوم واحد
بعد الإحالة الثانية، لينشر أخيرا بعد ذلك في الجريدة الرسمية.
 
    ثم،وبشكل مفارق سيعود الزمن التشريعي إلى إيقاعه العادي بمناسبة إصدار المرسوم المرتبط بهذا القانون، و ستاخد الحكومة كامل "وقتها" في مناقشته.
​عموما ،لقد كان المرور البرلماني  لهذا القانون التنظيمي، مناسبة للتذكير بغياب المخطط التشريعي، وهو ما يعني غياب الرؤية السياسية لترتيب أولويات وأجندة إخراج أكثر من 15 قانون تنظيمي في حدود ما تبقى من هذه الولاية التشريعية.
​وضدا على ما جاء في التصريح الحكومي من ضرورة "التنزيل التشاركي للقوانين التنظيمية" اتضح أن الحكومة لا تتوفر على أي منهجية سياسية لصياغة هذه القوانين التنظيمية بنفس الروح التي صيغ بها الدستور، وهو ما يعني أن الحكومة ستحتكر التحكم في البعد شبه التأسيسي لهذه الولاية ،وستقذف بعيدا بالقوانين التنظيمية خارج الرحم التوافقي للدستور.
​نعم إن القانون التنظيمي رقم 02.12  يعتبر بحق قانونا مهيكلا، ؛إنه يقدم الصورة الجديدة لطريقة توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية. ومع الأسف فهذه الصورة تخالف كثيرا روح الإصلاح الدستوري لعام 2011 التي إنبنت على فكرة "المسؤولية" و "الحكومة المنتخبة". كما تخالف الخطاطة الأصلية لتوزيع الصلاحيات بين الملك والحكومة، كما جاءت في النص الدستوري.
​لقد تأسس القانون التنظيمي على هاجس تحويل جزء من الصلاحيات الحصرية للحكومة، إلى المجال المشترك بين المؤسسة الملكية و الحكومة،مغلبا بذلك القراءة الرئاسية لنظامنا السياسي على أي تأويل برلماني ممكن، عن طريق تمطيط مفهوم "المؤسسات الاستراتيجية"، خاصة مع غياب الأعمال التحضيرية التي قد توضح ما قصده المساهمون في صياغة الدستور من هذا الاصطلاح .
خلال مناقشة هذا القانون المثير للجدل عشنا مشهدا مغربيا خاصا: المعارضة  تطالب الحكومة بممارسة صلاحياتها ،لكن هذه الأخيرة تجيب بأنها  تبحث عن الثقة وأنها لا تريد أن تتنازع مع الملك في  سلطاته!
 
 
-7-
 
خلال جلسة عامة بمجلس النواب يوم الثلاثاء 24 يوليو 2012، تمت المصادقة بالإجماع على مشروع القانون 01.12 المتعلق بالضمانات الأساسية الممنوحة للعسكريين بالقوات المسلحة الملكية.
الانطباع الأول كالعادة قد يكون مضللا.الإجماع حول قانون يهم القوات المسلحة ! ،من كان ينتظر غير ذلك؟
لكن الحقيقة شيء  أخر.لقد مارس مجلس النواب دوره كاملا في النقاش و التمحيص و المساءلة الأكثر من ذلك أصبح الأمر في حالة المقتضى الذي  ينص  على  الحصانة الجنائية و الذي عدل فيما بعد،موضوع حوار عمومي واسع ساهمت فيه الجمعيات الحقوقية بحس احترافي مميز(مركز دراسات حقوق الانسان و الديمقراطية  مثلا)، وأثراه باحثون وجامعيون،كما قدم خلاله المجلس الوطني لحقوق الإنسان رأيا  استشاريا في الموضوع.
كل هذا جعل من مرور هذا المشروع داخل مجلس النواب،مناسبة لتمرين حقيقي لتدبير سياسة تشريعية منفتحة على المجتمع المدني،مستثمرة لفرص التواصل البرلماني/ المدني،و لا تنطلق من عقدة التفوق "المرضي"للمؤسسة التمثيلية على باقي الشرعيات المؤسسية الأخرى ،خاصة عندما يتعلق الأمر بمؤسسات وطنية .
على مستوى المضمون ،شكل المشروع مناسبة لقياس يقظة المجتمعين السياسي و المدني تجاه مسألة الشرعية الدستورية،خاصة أمام هندسة دستورية تريد ان تبدو قائمة حول فكرة المسؤولية،ثم تجاه مقاربة حقوق الإنسان كمقاربة مهيكلة لكل السياسات العمومية.
الواقع أنه بالرغم من علاقة المشروع بالقوات المسلحة،فان تركيز الحوار العمومي قد تم حول جوانب تهم السياسة الأمنية ،مادام ان المادة التي أثارت الجدل تتعلق بالعمليات العسكرية التي تجري داخل التراب الوطني.
لقد شكلت الحكامة الأمنية إحدى أكبر العناوين الكبرى الخارجة من جبة توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة،لذلك وجدت الطريق سالكة إلى كثيرمن المذكرات المرفوعة للجنة الأستاذ المنوني.
ورغم ان دستور 29 يوليو 2011 لم يذهب كثيرا في التجاوب مع هذه المطالب المتعلقة بهذا المستوى،من قبيل حق البرلمان في مراقبة الأجهزة الأمنية،فإن تنصيص الفصل 54 على دور المجلس الأعلى للأمن في مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة،ثم  جعل الفصل 49 من تعيين مسؤو لي الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي يتم داخل المجلس الوزاري لكن باقتراح من رئيس الحكومة و بمبادرة من الوزير المعني.كل هذا يعني أننا أمام تقدم على صعيد المرجعية الجديدة للسياسة الأمنية، ثم على صعيد  فضاءات التداول و القرار بشأن السياسات الأمنية و التي أصبحت منتمية أكثر للمجال المشترك بين المؤسسة الملكية و الحكومة،ولم تعد أسيرة للمجال المحفوظ.
إن مرحلة الخروج من السلطوية،ترتبط كذلك بالانتقال من لحظة "أمننة السياسة" إلى لحظة "تسييس الأمن" بما يعني تحويل الأمن من موضوع للدولة إلى سؤال للمجتمع ؛أي موضوع للسياسة و للنقاش و التداول و الاختلاف، بل و التنافس الإنتخابي.
نعم إن دمقرطة السياسات الأمنية ،تبدأ بالضبط عندما تصبح هذه السياسات عادية و طبيعية،متحررة من الأقنعة التي تجيد الأنظمة السلطوية وضعها فوق خياراتها الأمنية – لجعلها خارج منطق المسائلة -  ،فتلحقها تارة بالمجالات "الحساسة"،أو ب"منطق الدولة" أو حتى بدائرة " المقدس".
-8-
 
المتتبع للحياة السياسية و المؤسساتية ببلادنا ،لا بد ان يستوقفه مسلسل للتوتر المتواصل بين مؤسسة البرلمان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
​في الخلفية الأولى للمشهد يبدو التوتر راجعا لحسابات سياسية مباشرة يبن حزب العدالة والتنمية بحجمه العددي والسياسي داخل مجلس النواب من جهة وبين المجلس الوطني لحقوق الإنسان من جهة أخرى، حيث بالنسبة للحزب الفائز في الاستحقاق الانتخابي الأخير ليس من المقبول تماما أن يغيب عن خريطة التمثيلية السياسية والحقوقية داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بصيغته الجديدة على المستويين الوطني والجهوي،وهي الحسابات التي قد تغديها "حساسية" الحزب الفائزفي الانتخابات تجاه بعض"النخب"المقربة من "الدولة" والقادمة من قنوات تنخيب"أخرى " والحاملة لبروفيلات قريبة من "اليسار".
​هذا الجزء من التحليل قد يساعد على قراءة بعض الوقائع المتعلقة بما أثير حول دعوة السيد إدريس اليازمي - بصفته رئيسا لمجلس  الجالية المغربية بالخارج - للاستماع إليه أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية. وهو ما أثار الكثير من الصخب الإعلامي الذي انطلق بتصريحات أعضاء من اللجنة يحتجون على رفض رئيس المجلس المذكور المثول أمامها، ثم انتهى بتوضيح من مجلس الجالية ينفي نهائيا توصله بأية دعوة من أي لجنة نيابية.
​واقعة أخرى تدخل في نفس الخانة، تتعلق بتحفظ نواب من العدالة والتنمية على الطلب الذي تقدمت به المعارضة الاتحادية لمكتب مجلس النواب والقاضي بتفعيل مسطرة طلب الرأي الاستشاري للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص مشروع القانون المتعلق بالضمانات الممنوحة للعسكريين.
​لكن رغم هذه الوقائع، يبقى من "السهولة" اعتبار هذا التوتر يعود فقط إلى هذه الخلفية السياسية. إن الأمر يتعلق في نهاية التحليل بإحدى "التوترات المهيكلة" التي أفرزها دستور 2011 والتي يشكل قطبيها :"البرلمان" من جهة و "هيئات الحكامة الجيدة" من جهة أخرى.
​الدستور المغربي الذي جاءت إصلاحاته الجديدة، لكي تحاول إغناء الطابع التمثيلي وسلطةالاقتراع العام وتقوية التأويل البرلماني، هو نفسه الذي أفرد بابا كاملا لما أسماه بهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية.
​وإذا كان النظام الداخلي لمجلس النواب في صيغته الأولى قبل ملاحظات المجلس الدستوري قد جعل من وضعية هذه المؤسسات شبيهة بالمؤسسات العمومية والمقاولات العمومية التي توجد تحت طائلة
 
الرقابة البرلمانية، بما في ذلك امكانية مثول رؤسائها أمام اللجن النيابية المعنية بمجال اشتغالها، فإن المجلس الدستوري أقر عدم دستورية ذلك المقتضى من النظام الداخلي انطلاقا من مبدأ "استقلالية" هذه المؤسسات المدرجة في خانة هيئات الحكامة الجيدة.
​ما معنى هذه "الاستقلالية" خاصة في علاقة بالسلطة التشريعية؟، أين تبدأ سلطة المنتخبين وأين تنتهي، أين موقع "المؤسسات الوطنية" من مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؟
​وباختصار،كيف يمكن تصور علاقة المؤسسات التمثيلية بالمؤسسسات الوطنية ؟
​إنها أسئلة تكتسي اليوم كل راهنيتها، الجواب عنها هو الطريقة التي سيدبر بها المغرب هذا "التوتر" البنيوي داخل مشهده المؤسسي الجديد، توتر موضوعه هو التدافع الطبيعي بين نوعين من الشرعية:شرعية التمثيل السياسي المبنية على سلطة الاقتراع العام وعلى فكرة المسؤولية، وشرعية المؤسسات الوطنية المبنية على سلطة "الاستشارة" وفكرة الديمقراطية التشاركية والحوار العمومي المدمج للمجتمع المدني .
 
 
-9-
 
تتوزع اليوم استراتيجيات الفاعلين السياسيين،بصدد العلاقة مع الوثيقة الدستورية،بين استراتيجية "الملء" و الاستثمار الأقصى لفرص و ممكنات الدستور،وهو ما تقوم به المؤسسة الملكية،و بين استراتيجية "الثقة"و التنازلات التكتيكية للحكومة.
في بعض الحالات ،تريد الدولة أن تبدو أقوى من الدستور و اكبر منه. و في المقابل ،تريد الحكومة ان تبدو أضعف من الدستور ،و أوهن من صلاحياتها ،كما دونت في وثيقة2011.
لقد حرصت الدولة على التعامل مع الوثيقة الدستورية الجديدة ،إنطلاقا من المحددات التالية:
- الإنتباه للإمكانيات التي ظلت خارج منطقة "الدسترة " (تعزيز دائرة المستشارين الملكيين مثلا).
- احترام مبدأ المنهجية الديمقراطية ،في تعيين رئيس الحكومة.
- استثمارغموض الدستور لفائدة تأويلات تقوي سلطات المؤسسة الملكية(التعيينات الملكية إبان مرحلة حكومة تصريف الأعمال ،و قبل تنصيب الحكومة).
- الاستناد الى الفصل 42 الذي يمارس بموجبه الملك مهامه السيادية و الضمانية و التحكيمية ،كرئيس للدولة،من اجل استمرارية طبيعية لوثيرة الأنشطة الملكية، وكذلك من اجل  احتفاظ الخطب الملكية بنفس تنفيذي و توجيهي ،بما يضمن للمؤسسة الملكية وضع الفاعل السياسي غير البعيد عن أجندة السياسات العمومية ،بل و "المصحح" لأولوياتها،في علاقة مع البرنامج الحكومي(مسألة التعليم مثلا في خطاب العرش الأخير).أو من اجل التدخل لضبط بعض اختلالات العمل الحكومي (حالة دفاتر التحملات).
-  ممارسة سلطة " الحلول " عوضا عن رئاسة الحكومة،في ممارسة صلاحيات تنفيدية عادية، وذات طابع تدبيري (مسألة الأمر بإجراء تحقيقات حول ممارسات موظفين عموميين)،و هو ما قد يبدو تأويلا "واسعا و إشكاليا" لذات الفصل المذكور.
- الاستفادة من كل مساحات القرار الممنوحة دستوريا ،خاصة تلك البعيدة عن منطقة الصلاحيات المقتسمة(تعيين رئيسة المجلس الأعلى للسمعي البصري و أمينها العام،ثم رئيس المجلس الأعلى للحسابات).
- عودة بعض القراءات السياسية المنطلقة من حقل إمارة المؤمنين،والتي تذهب في اتجاه ما معناه:أن الدستور "الديني" أعلى و أشمل من "الدستور الوضعي "(الدرس الحسني الشهير لوزير الأوقاف و الشؤون الاسلامية).
بالنسبة للحكومة فقد حرصت من جهتها،على التعامل مع الدستور انطلاقا من المحددات التالية:
- عدم استثمار امكانية تأسيس الحكومة"السياسية و "المنتخبة".
- عدم احترام لحظة التنصيب البرلماني.
- التنازل عن جزءمن صلاحيات الحكومة و رئيسها في القانون التنظيمي –المتعلق بالتعيين في المناصب السامية- رقم 12-02
- تدبير صلاحيات رئيس الحكومة المتعلقة ببعض الاختصاصات الأمنية و الترابية،بطريقة تجمع بين الاحترام الشكلي للمسطرة ،وبين الاستسلام للاقتراحات المقدمة من سلط "أدني"(حالة تعيين المدير العام للأمن الوطني ،و الولاة و العمال).
- التسليم بازدواجية القرار المتعلق بالسياسة الخارجية،مع استبطان فكرة تبعية الحكومة في هذا المجال.
- اللجوء في كثيرمن حالات الى خطاب "النص لا يهم"،أو ان " تنزيل الدستورليس مهمة للحكومة أو لرئيسها".
عموما،لدينا اليوم ،دستور جديد و متقدم ،لكن مع ثقافة سياسية قديمة تتحكم في تأويله ، مما لا يجعل دائما من احترام "الشرعية الدستورية "القاعدة السائدة .اذ لا شك أن جزء من الدولة يريد ان يحتفظ  من الماضي، في  بعض الحالات،بفكرة- طورها الملك الراحل – هي أسبقية وأولوية وسمو النظام السياسي على مؤسسة الدستور نفسه،كما أن جزء من النخب الحكومية و غير الحكومية،تريد هي الأخرى ،في بعض الحالات ،أن تحتفظ من الماضي ،بفكرة – طورها اليسار سابقا- هي أولوية الثقة على التعاقد المكتوب ،و أسبقية السياسي على الدستوري.
لدينا دستور جديد و متقدم.فقط هو محتاج لسياسيين يحترمونه،لا الى سياسيين يستصغرونه أو آخرون يهابونه


-10-



بغير كثير من الانتباه ،يمكن القول ان "الأغلبية السياسية" مفهوم طارئ على التاريخ القصير لما تسميه الصحافة في بلادنا- بقليل من المجاز- "تجربة ديمقراطية".
مرت سنوات عديدة ،لم تكن الحكومات محتاجة لدعم البرلمان ،ولنفس الأسباب لم تكن تتصرف كما لو انها مسائلة أمامه .لم يكن النظام السياسي يمنحها سوى هامش صغير للحركة.ضعف استقلاليتها في التشكيل و الاختصاصات عن السلطة الملكية ،كان يجعلها مجرد امتداد بنيوي و وظيفي لهذه الاخيرة،ورغم التنصيص الدستوري على ان الحكومة مسؤولة امام الملك و البرلمان فان الحكومة عمليا -قبل ١٩٩٢ - لم تكن عمليا مسؤولة سوى امام الملك  ،الذي كانت تخضع لسلطاته بشكل مطلق.
نعم عاش المغرب حياة نيابية متقطعة،وكثيرا ما تحول البرلمان الى بؤرة للصراع و الحيوية،و   عادة ما كان الوزراء يذهبون لجلسات الأسئلة و ربما يحدث ان يخضعون لتمرين ملتمس الرقابة القاسي،لكن الحكومات كانت تعرف انهالا تدين في حياتها و وجودها و استمرارها و صلاحياتها الا لجهة واحدة ،هي و هي فقط من تملك مفاتيح التعيين و العزل ،التنصيب والإعفاء ،الثقة و الإدانة ،العطف و الازدراء .
عمق و جوهر النظام السياسي ،كانا يجعلان من المؤسسة الملكية ،المصدر المطلق لشرعية الحكومات.لذلك لم تكن ثمة علاقة مؤكدة بين الإرادة الشعبية المعبر عنها -افتراضا-من طرف الانتخابات ،و بين تشكيل الحكومات و تعيين الوزراء.
حتى عندما اتجهت الادارة الى اختلاق ظاهرة الحزب الأغلبي ،لم  تتحول"الحكومات" الى كيانات سياسية و حزبية بامتدادات نيابية ،و ذلك بسبب اختيار التدبير التقنقراطي الذي كان قناعة مذهبية عند الملك الراحل.
كان لابد انتظار بداية التسعينات ،لكي تفتح كوة ضوء صغيرة في النظام السياسي المبني على قاعدة "اللامسؤولية المنظمة"،وذلك عن طريق المقتضى الدستوري-البسيط و العميق في ذات الان- الذي يجعل من الحكومة المعينة مطالبة بعرض تصريحها الحكومي على مجلس النواب قصد التصويت عليه ،طلبا للثقة. 
ثم كان لابد ان يدخل المغرب اجواء التحضير لحدث التناوب الاول ،لكي تعيش بلادنا اللحظة الاولى لانبثاق الأغلبية النيابية و السياسية ،والتي ستبرز زمنيا قبل ظهور الحكومة من خلال التصويت على رئيس مجلس النواب عبد الواحد الراضي.
اليوم ،بعد زلازل الربيع العربي و هبة شباب فبراير ،نمتلك دستورا جديدا،دستور ينبني على فكرة المسؤولية السياسية،دستور يقوي الروح البرلمانية للنظام،دستور  يجعل البرلمان سلطة لتنصيب الحكومة،دستور يجعل -او يكاد يجعل -الحكومة مسؤولة اساسا امام مجلس النواب،دستور يريد ان يحول البرلمان الى مكان للسلطة  و مورد لشرعية الحكومة...
اليوم،ما معنى ان يتبرم الوزراء من انتقادات نواب الأغلبية؟ ،و ما معنى ان تصدر الحكومة بلاغا لتعبر عن قلقها من مداخلة نائبة من احزاب الأغلبية ؟من يراقب من ؟و من يسائل من؟هل نتوفر على حكومة الأغلبية ام اغلبية الحكومة؟
 

-11-


 
               




  قد يكون حزب العدالة و التنمية ،من الاحزاب السياسية القليلة التي طالبت إبان مرحلة الحوار العمومي  التي تلت 9 مارس ،بدسترة وضعية المعارضة البرلمانية و منحها وضعا قانونيا في إدارة النقاش البرلماني ،مع التنصيص على إسنادها رئاسة لجان تقصي الحقائق.
 لكن ذلك كان كافيا كي يتجاوب المشرع الدستوري مع هذا المطلب الديمقراطي المؤكد.حيث خصص "الفصل العاشر "بكامله للمعارضة البرلمانية،التي اصبح الدستور يضمن لها مكانة تخولها حقوقا ،قصد تمكينها من النهوض بمهامها على الوجه الأكمل ،في العمل البرلماني و الحياة السياسية.فيما اعتبر "الفصل الستون " ان المعارضة مكون اساسي في مجلسي البرلمان .
وفضلا عن ترؤسها للجنة العدل والتشريع و لجنة اخرى ،على الاقل ،قدم الدستور المغربي للمعارضة و للاقليات البرلمانية امكانيات للولوج للآليات الرقابية المتميزة ،حيث بامكان ثلث اعضاء احد المجلسين طلب تشكيل لجان نيابية للتقصي،وخمس اعضاءه تقديم ملتمس الرقابة و طلب إحالة قانون الى المجلس الدستورية للبت في مدى دستوريته.
  الاطلاع على التجارب المقارنة ،في العمل البرلماني ،يوضح ان إقرار حقوق خاصة للمعارضة ،يبدو توجها حديثاً في غالبية الأنظمة الداخلية للمجالس التشريعية،حيث  يسمح"الوضع القانوني الخاص"للمعارضة ،بعديد من الإمكانيات منها : الاستفادة من نفس الغلاف الزمني المخصص للأغلبية على مستوى الأسئلة الشفوية (الحالة الفرنسية)،رئاسة احدى اللجان النيابية المهمة مثل لجنة المالية،المساهمة في اقتراح مواضيع تقييم السياسات العمومية،ايجاد صيغة لتمكين المعارضة من تحديد جدول الاعمال خلال جزء من الدورة التشريعية(الحالة الانجليزية)،الحق في الاستشارة المسبقة من طرف الحكومة في القوانين المتعلقة بالاختيارات الكبرى على مستوى السياسات الاقتصادية و الأمنية و الخارجية(الحالة البرتغالية)....
 من الناحية السياسية، فان توجه العديد من الأنظمة البرلمانية لتعزيز وضعية المعارضة و الأقليات،يعود لحرص واضح على تفادي "تحييد"الوظيفة الرقابية للبرلمانات ،تحت ثاتير انبثاق الحكومة من الأغلبية النيابية،خاصة في  ظل البلدان التي تعرف ثنائية حزبية.
لذلك فتقوية صلاحيات المعارضة ،يعني تعزيز و تكريس الوظيفة البرلمانية في كل مستوياتها:الرقابية، و التشريعية ،و مايتصل بتقييم السياسات العمومية،وذلك  لن يكون بالضرورة على حساب الحكومة ،بقدر ما هو عامل  تدعيم للبرلمان و تقوية للتوازن بين السلط.
نعم تبقى الديمقراطية خاضعة للظاهرة الرقمية ،و لقانون الأغلبية ،لكنها تظل كذلك بالتعريف تلك القدرة على تقبل الاختلاف، و احترام الأقليات، و التفاعل مع المعارضة.ان الشرعية الانتخابية لا تلغي ديمقراطية الحوار و التداول العمومي.
ان اعتبار التصويت بالثقة و التنصيب البرلماني،شيكا على بياض و تفويضا مطلقا للحكومة طوال مدة ولايتها،لن يؤدي سوى الى تحويل البرلمان الى غرفة كبيرة لتسجيل قرارات الحكومة و "تثمينها"،وتحويل وظيفة المساءلة الى حالة "تحاور" فيها الحكومة نفسها.
مرة اخرى ،الحكومة مدعوة لتملك روح الوثيقة الدستورية فيما يتعلق بدعم مكانة المعارضة،و هو مايبدو انه لم يكن من أولوياتها لحد الان على الاقل ،من خلال عديد من المؤشرات؛تنطلق من منهجية اعداد القوانين التنظيمية بشكل يقطع مع مقاربة اعداد الدستور نفسه،ثم طريقة اعداد المخطط التشريعي ،و الرفض شبه الآلي لتعديلات المعارضة في مشاريع قوانين المالية،وصولا الى غياب أية ثقافة للتشاور حول تدبير القضية الوطنية ،و الملفات الكبرى للبلاد.
امام البرلمان في ورش اعداد النظامين الداخليين لمجلسيه،الفرصة لتفعيل الوضع الدستوري المتقدم للمعارضة،وهو ما يعني تجاوز عتبة الثمتيل النسبي -خارج ما هو محدد في الدستور-في الولوج الى العديد من الآليات التشريعية و الرقابية،بما يضمن دينامية برلمانية اكبر ،و تفعيلا أرقى لمبدأ المسؤولية.


-12-

 

                         





ربما هو نابليون بونابرت، من قال "اريد دستورا قصيرا و غامضا".النصوص القصيرة و الغامضة تمنح للحاكمين مساحات أوسع للتاويل ،و تعددا مؤكدا للقراءات .لذلك ظلوا يحتكرون سلطة "التاويل"و استنطاق ما وراء السطور ،و عن طريق ذلك كانوا في الحقيقة يعيدون "صياغة" هذه النصوص و تكييفها وفقا لرغباتهم و لمصالحهم.
الانتقال الكبير للديمقراطية  الذي عاشته الدول الغربية ،كان يعني كذلك التحول من حالة الدساتير الوجيزة و الغامضة الى الدساتير التي تعنى بالوضوح و التدقيق ،ثم بعد ذلك للجيل الجديد من الدساتير المفصلة.انتقال شهد بالموازاة مع ذلك نقل سلطة التاويل من الحاكم الى القاضي،حيث لم يعد الامر مجرد لعبة للمزاج و الأهواء و في احسن الحالات قضية تقدير سياسي خالص ،بل مسالة مناهج و قواعد.
في المغرب،لم يحدث منذ 1962-التاريخ المتاخر لالتحاق بلادنا بزمن الدسترة- ان كان لدينا دستورا بمواصفات بونابارت،لكن الملك الراحل الحسن الثاني كان يعتبر الملكية سابقة على الدستور ،و مؤسسة "فوق" نصوصه و "اسمى"من قواعده ،لذلك شكلت العديد من خطبه مناسبات لاستعراض تاويلات شتى لفصوله و مقتضياته،وصلت حد تحويل الفصل 19 بكل ما يقدمه من حمولة بلاغية  مشحونة بالمعاني الدينية و التاريخية،الى دستور جديد اجتهد الباحثون في توصيفه كدستور عرفي او ديني اوضمني!!
اليوم مع دستور جديد،يمكن القول ان متغيرات كبرى باتت تحيط بإشكالية التاويل .من جهة تقدم دستور2011 على مستوى التفصيل و التدقيق في كثير من المقتضيات،و من جهة اخرى تحمل هذه الوثيقة إقرارا واضحا و قويا بمسألة سمو الدستور و خضوع باقي المؤسسات لأحكامه ،زيادة على ترقية المجلس الدستوري الى محكمة دستورية.
كل هذا من شانه ان يقودنا لطرح السؤال عما اذا كان سيؤدي هذا التحول الى ان يتجاوز القضاء الدستوري ببلادنا،وضعية السلطة" الثانوية" في التاويل الدستوري؟
ان المطلوب من كل الفاعلين القطع مع مرحلة اعتبار التوافقات السياسية ذات أولوية  مطلقة على التقيد بالدستور،وهنا فان دور النخب السياسية في تمتل سمو الدستور لايقل اهمية عن دور المجلس الدستوري الذي كثيرا ما يظهر كضابط للتوازنات السياسية اكثر من حرصه على احترام الدستور.  
 لقد بني القضاء الدستوري المغربي "عقيدته" الاجتهادية على المغالاة في تقييد و عقلنة البرلمان ،لذلك لابد من السؤال عما اذا كان اليوم -مع التوازنات المؤسسية الجديدة- سيتحول الى مدافع عن تقييد و عقلنة الحكومة مقابل الصلاحيات الملكية؟ 
ان التاويل الديمقراطي يعني بدءا ما يمكن نعته بالتاويل "الدستوري"للدستور،و الذي يعني الانطلاق من النص و ليس من الوقائع السياسية،ثم يعني كذلك الانطلاق من استحضار روح اصلاحات2011 المثمتلة اساسا في تقوية النفس البرلماني للعلاقة بين الحكومة و البرلمان،و هذا ما لا نلمسه في كثيرا من التأويلات الرئاسية لبعض قرارات المجلس الدستوري الصادرة حديثاً   .
لقد اعتبر المجلس الدستوري ان تقييم السياسات العمومية لا يمكن ان يكون عملا للجان البرلمانية ،وانه يمكن اختزال كل هذه الصلاحية البرلمانية الكبرى ،في مجرد جلسة سنوية واحدة للمجلسين مجتمعين!.كما فسر استقلالية المؤسسات الوطنية و هيئات الحكامة ،كاستقلالية عن السلطة التنفيدية،و هو محق في ذلك ،لكنه عندما  اعتبر مناقشة اللجان النيابية لتقارير هذه المؤسسات عمل مخالف للدستور ،يكون قد ذهب بعيدا في قراءته لهذه الاستقلالية حتى اصبحت استقلالية اتجاه البرلمان نفسه!
اما بمناسبة رقابته لدستورية القانون التنظيمي المثير للجدل و المتعلق بالتعيين في المناصب العليا،فقد تنازل عن وظيفته في تفسير مفهوم المؤسسات والمقاولات الاستراتيجية،و هو مايعني تكريس التاويل المغرق في الرئاسية الذي قام به كل من المشرع و الحكومة.
ان من المهم الحديث في هذه المرحلة عن تطبيق و تفعيل الدستور،اكثر من الحديث عن تاويله،لكن ولان هذا الدستور في النهاية يبقى عبارة عن "كلمات"فانه قد يكون في بعض الحالات معرضا للتاويل ،تأويل ستتضطر الحكومة و المشرع  لممارسته كثيرا بمناسبة اعداد باقي القوانين التنظيمية،مما يعني ان الدستور النهائي هو الذي سنحصل عليه في نهاية الولاية ،لنرى حينها من سيكون اكثر حضورا الطابع البرلماني ام الطابع الرئاسي؟
عموما المؤشرات الحالية تقدم منحى تنازلي شبيه بموت بطيء للفكرة البرلمانية الحاضرة في وثيقة يوليوز2011.
  


 



Envoyé de mon iPad

Publié dans article

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article